سورة النحل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{هَلْ يَنظُرُونَ} أي ما ينتظر كفارُ مكةَ المارُّ ذكرُهم {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لقبض أرواحِهم بالعذاب، جُعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظارِه لا لأنه يلحقهم البتةَ لحوقُ الأمر المنتظرِ بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبةِ له المؤديةِ إليه، فكأنهم يقصِدون إتيانَه ويترصّدون لوروده، وقرئ بتذكير الفعل {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعارٌ بأن إتيانَه لطفٌ به عليه الصلاة والسلام وإن كان عذاباً عليهم، والمرادُ بالأمر العذابُ الدنيويُّ لا القيامةُ، لكن لا لأن انتظارَها بجامع انتظارِ إتيان الملائكةِ فلا يلائمة العطفُ بأو لأنها ليست نصًّا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منعُ الخلوّ ويرادَ بإيرادها كفايةُ كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي: {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية، صريحٌ في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي {كذلك} أي مثلَ فعلِ هؤلاء من الشرك والظلمِ والتكذيب والاستهزاء {فَعَلَ الذين} خلَوا {مِن قَبْلِهِمُ} من الأمم {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بما سيُتلى من عذابهم {ولكن كَانُواْ} بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبةِ لذلك {أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} كان الظاهرُ أن يقال: ولكن كانوا هم الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظمُ الكريم لإفادة أن غائلةَ ظلمِهم آيلةٌ إليهم وعاقبتَه مقصورةٌ عليهم مع استلزام اقتصارِ ظلمِ كل أحد على نفسه من حيث الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصدور وقد مر تحقيقُه في سورة يونس.
{فَأَصَابَهُمْ} عطف على قوله تعالى: {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} وما بينهما اعتراضٌ لبيان أن فعلَهم على ذلك ظلمٌ لأنفسهم {سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي أجزيةُ أعمالِهم السيئة على طريقة تسمية المسبَّب باسم سببِه إيذاناً لفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يوهم أن لهم أعمالاً غيرَ سيئاتهم {وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بهم من الحَيق الذي هو إحاطةُ الشر، وهو أبلغ من الإصابة وأفظع {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} من العذاب.


{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} أي أهلُ مكة، وهو بيانٌ لفن آخرَ من كفرهم والعدولُ عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمِّهم بذلك من أول الأمر {لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} أي لو شاء عدم عبادتِنا لشيء غيرِه كما تقول لما عبدنا ذلك {نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا} الذين نقتدي بهم في ديننا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} من السوائب والبحائرِ وغيرِها، وإنما قالوا ذلك تكذيباً للرسول عليه الصلاة والسلام وطعناً في الرسالة رأساً متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأْ يمتنع، فلو أنه شاء أن نوحّده ولا نشرِكَ به شيئاً ولا نحرِّمَ مما حرمنا شيئاً كما يقول الرسلُ وينقُلونه من جهة الله عز وجل لكان الأمرُ كما شاء من التوحيد ونفي الإشراكِ وما يتبعهما، وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئاً من ذلك، وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب عنه بقوله عز وجل: {كذلك} أي مثلَ ذلك الفعلِ الشنيع {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم، أي أشركوا بالله وحرموا حِلَّه وردوا رسلَه وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق.
{فَهَلْ عَلَى الرسل} الذين يبلغون رسالاتِ الله وعزائمَ أمره ونهيِه {إِلاَّ البلاغ المبين} أي ليست وظيفتُهم إلا تبليغَ الرسالة تبليغاً واضحاً أو موضَّحاً وإبانةً طريقَ الحق وإظهارَ أحكام الوحي التي من جملتها تحتّمُ تعلقِ مشيئةِ الله تعالى باهتداء مَنْ صَرَف قدرتَه واختيارَه إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذُ قولِهم عليهم شاءوا أو أبَوا كما هو مقتضى استدلالِهم، فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي عليها يدور أمرُ التكليفِ في شيء حتى يُستدلَّ بعدم ظهور آثارِه على عدم حقّية الرسلِ أو على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثوابُ والعقابُ من أفعال العباد لا بد في تعلق مشيئتِه تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختياريةِ له وصرفِ اختيارِهم الجزئيِّ إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريَّيْن، فالفاءُ للتعليل كأنه قيل: كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسلَ ليس شأنُهم إلا تبليغَ أوامرِ الله تعالى ونواهيه لا تحقيقَ مضمونِهما وإجراءَ موجبهما على الناس قسراً وإلجاءً، وإيرادُ كلمة (على) للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حقٌّ للناس عليهم وإيفاؤُه. بهذا ظهر أن حملَ قولِهم: {لَوْ شَاء الله} الخ، على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثوابُ والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم، أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولاً خاصاً بهم {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكون {أن} مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً، أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده {واجتنبوا الطاغوت} هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة {فَمِنْهُمْ} أي من تلك الأمم، والفاء فصيحة، أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم {مَّنْ هَدَى الله} إلى الحق الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق، وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمِه، لا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده {فَسِيرُواْ} يا معشرَ قريش {فِى الارض فانظروا} في أكنافها {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليهم الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ. وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان، وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء.


{إِن تَحْرِصْ} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرئ بفتح الراء وهي لغة {على هُدَاهُمْ} أي إن تطلب هدايتَهم بجهدك {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهدايةَ جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالةَ بسوء اختيارِه، والمرادُ به قريش، وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالةُ وللإشعار بعلة الحكم، ويجوز أن يكون المذكورُ علةً للجزاء المحذوف، أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لا يهدي من يُضله وهؤلاء من جملتهم، وقرئ: {لا يهدى} على بناء المفعول أي لا يقدر أحدٌ على هداية من يضله الله تعالى، وقرئ: {لا يهَدّي} بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال، ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، وقرئ: {يُضل} بفتح الياء، وقرئ: لا هاديَ {لمن يُضِل} و{لمن أضل} {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذابَ عنهم، وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلةَ الجمعِ بالجمع يقتضي انقسامَ الآحادِ إلى الآحاد لا لأن المرادَ نفيُ طائفةٍ من الناصرين من كل منهم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله} شروع في بيان فن آخرَ من أباطيلهم وهو إنكارُ البعث {جَهْدَ أيمانهم} مصدرٌ في موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغَ ردَ بقوله الحق {بلى} أي بلى يبعثهم {وَعْداً} مصدر مؤكد لما دل عليه بلى، فإن ذلك موعدٌ من الله سبحانه، أو المحذوفِ، أو وعَد بذلك وعداً {عَلَيْهِ} صفة لوعداً أي وعداً ثابتاً عليه إنجازُه لامتناع الخُلفِ في وعده، أو لأن البعثَ من مقتضيات الحِكمة {حَقّاً} صفةٌ أخرى له أو نصبٌ على المصدرية أي حقَّ حقاً {ولكن أَكْثَرَ الناس} لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرةِ والحكمة وغيرِها من صفات الكمالِ، وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدمِ وقوفِهم على سرّ التكوين والغايةِ القصوى منه، وعلى أن البعثَ مما يقتضيه الحكمةُ التي جرت عادتُه سبحانه بمراعاتها {لاَّ يَعْلَمُونَ} أنه يبعثهم فيِبْنون القولَ بعدمه أو أنه وعدٌ عليه حق فيكذبونه قائلين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8